روائع مختارة | قطوف إيمانية | الرقائق (قوت القلوب) | تـاج الوقـــار

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > قطوف إيمانية > الرقائق (قوت القلوب) > تـاج الوقـــار


  تـاج الوقـــار
     عدد مرات المشاهدة: 2920        عدد مرات الإرسال: 0

كما مرّ الألم الذي كانت تعاني منه أمّي مرّت شهور مرضها.. طويلة.. ظلام يلّفنا في بيتنا.. بيتنا؟ إنّه مجرد غرفة مهترئة.. نجلس فيها.. نأكل.. ننام.. لقد كنّا نعاني.. يعذّبنا الفقر.. الجوع.. ومرض أمّي.. وغربة أبي..

قال لنا أبي قبل رحيله: سأذهب إلى بلد يكثر فيه الخير، وآتيكم بالمال.. سنعالج أمّكم.. سنترك هذه البلدة التي عذّبنا فيها الهندوس.. وننتقل إلى بلدة أخرى يكثر فيها المسلمون.. سنبني بيتاً كباقي الناس.. ونأكل الحلوى كباقي الناس.. فقط نحتاج المال.. وسترون كيف تتغيّر حياتنا..

كلماته كانت تنبض تفاؤلاً.. إبتسامة تحاول أن تقف على شفتيه.. ولكنّ الدموع تفقدها التوازن.. ضمّني وإخوتي بقوّة.. وضع يده على كتف أخي الأكبر تقي الدين: انتبه لأهلك ورحل.. رحل أبي باكياً.. وتركنا من خلفه نبكي..

هذه سنة تمرّ دون أن نراه.. ما أقسى الإشتياق.. لا رسائل تصلنا.. لا أحد يبشّرنا.. ولا طيف من خياله يؤنسنا..

حينما رحل.. كنّا نقف عند باب بيتنا كلّ مساء في إنتظاره حاملاً معه رغيف الخبز اليابس لكي نأكله معاً.. تنادينا أمّي وهي تحاول رفع رأسها من فوق فراشها: هل عاد والدكم؟ نلتفت إليها.. وننخرط في البكاء.. كلا، أبي لم يعد..

ليتك يا أبي تعود.. لا نريد الحلوى والبيت الجديد.. نريدك أنت.. أمّي تحتاجك.. نحن نحتاجك.. ولكن..... كيف يصل صوتنا إليك؟

ليتك بجوارنا الآن يا أبي.. هذه المرّة نحن نحتاجك أكثر من أيّ وقت مضى.. الظلام.. الأحزان.. الفقر يبتلعنا.. ماتت أمي يا أبي.. ظلّت طوال فترة مرضها تسأل عنك.. ها هي قد رحلت دون أن تراك.. نحن الآن نحاول إحتواء أنفسنا.. نخاف على بعضنا البعض من الضياع.. سبعة أطفال من يؤويهم؟ لا أحد إلا الله..

إستطاع أخي أن يحصل على رقم الكفيل الذي يعمل عنده أبي.. لا أدري ما الطريقة.. ولكنّه تعب كثيراً حتّى إستطاع الحصول على الرقم..

ها هو قد أتى.. ملامحه.. صحّته.. ملابسه.. تدلّ على أنّه في نعمة.. ولكنّ الحزن ظلّ يفرض سيطرته على قلبه.. ماتت أمّنا منذ ستة أشهر.. لم ندر كيف نخبرك..

وكأنّ أمي لم تمت إلا تلك الساعة.. مأتم جديد.. وحزن جديد..

بعد أسبوع تحديداً.. جلسنا مع أبي، هل سيتركنا ويرحل؟ بدأ أخي ظهير الدين وانطلقنا بعده نلقي السؤال:

- متى ستعود إلى السعوديّة يا أبي؟

- بعد ثلاث أسابيع.. سأنهي كلّ ما يجب إنهاؤه ثم نعود..

- نعود؟

- نعم.. ستأتون معي.. لا يمكن أن أدعكم هنا تقاسون وحدكم..

- لكن هذه بلدنا.. نحن لا نعرف غير لغتنا..كيف يمكننا العيش هناك؟

- تلك بلد المسلمين كلّهم.. ستعيشون بأمان.. وسنكون أقرب إلى الحرمين.. بإذن الله.. يمكنكم حفظ القرآن.. هناك في دور خاصّة بالتحفيظ.. لتلبسوني وأمّكم تاج الوقار يوم القيامة..

الخوف يلّفنا من المستقبل الغريب.. كيف سيعاملنا الناس؟ إنّنا لا نملك أيّ معلومة تذكر عن تلك البلد.. كلّ ما نعرفه عنها أنّها بلد المسلمين.. سنعيش بأمان.. وسنكون أقرب إلى الحرمين.. بإذن الله..!!

هل سنبقى إلى الأبد في السعودية؟ قفز إلي هذا السؤال عندما صعدنا إلى الباخرة، نظرت إلى بلدي.. صحيح.. عانينا هنا.. ذقنا الفقر والتعذيب على يد هؤلاء الكفرة.. ولكنّنا نحبّها.. فهي الوطن.. وما أعذب الإنتماء للوطن.. وبصمت ذرفت الدموع.. أخي الأكبر لم يستطع الإحتمال.. صرخ بأعلى صوته ملوّحاً بيده تجاه الهند وداعا أيّتها الحبيبة، وداعاً وإنخرط في بكاء حارّ..

حينما نحدّث عن التفاصيل.. تمتلئ الأوراق بقصص مختلفة.. ولكنّ اللون الذي يصبغ هذه القصص هو لون الدموع.. الألم.. الغربة..

مع أوّل خطوة لنا على أرض السعوديّة شعرنا بالرهبة.. مهلاً.. تسلّل إلى صدري صوت عذب نقيّ الله أكبر الله أكبر الناس يذهبون إلى هناك.. إلى حيث النداء.. لا كنائس.. لا نواقيس.. لا تعذيب.. فقط مساجد.. صلاة..أمام الملأ كلّهم.. آه يا بلاد المسلمين.. أحبّك.. أحبّك بصدق.. ليت أمّي معنا كي ترى وتسمع هذه الروعة كلّها..

أيّام مرّت على وصولنا.. السكن لا يختلف كثيراً عمّا كان عليه في بلدي.. ولكنّ الجوع والمرض ذكرى قديمة وإنتهت.. فتح  تقي الدين موضوع الدراسة مع أبي..

- نريد أن ندرس ونتعلّم..

- آه.. نعم.. لابد من ذلك..

- حسنا.. متى تبدأ الدراسة.. ومتى نذهب إلى المدرسة؟ والسؤال الأهمّ.. كيف يمكننا أن نتعلّم اللغة العربيّة لكي نفهمهم هنا؟

لم تقبلنا المدارس بسبب نقص بعض الأوراق الرسميّة الهامّة.. ومرّت سنة كاملة في إنتظار وصولها من الهند.. لكنّنا لم نجلس مكتوفي الأيدي.. والتحقنا بدور التحفيظ لتعلّم القرآن..

جوّ التحفيظ.. ما أجمله.. عشت فيه أجمل لحظات عمري.. الشيء الوحيد الذي كان يكدّر عليّ سعادتي هو أنّ ذلك الوجه الحبيب لم يكن معنا.. لا بأس أمّاه.. سأعوّضك عن ذلك العذاب.. وألبسك تاج الوقار.. سأحفظ القرآن أيّتها الغالية.. إنتظري التاج منّي.. كنت أرى أبي يدخل علينا أحيانا بوجه مكفهّر مقهور.. وأخي مثله، ولكنّ الغضب يتأجج في عينيه.. يتهامسان ثمّ ينفجر أخي -لنعد إلى بلدنا.. إنّهم هنا يعاملوننا بقسوة.. كأنّنا ما جئنا إلا للإهانات.. نحن نعمل بشرف كغيرنا..

- لقمة العيش صعبة يا بنيّ..

- بل الأصعب هو الذلّ يا أبي..

- لا فرق.. هناك ذلّ أشدّ من هذا الذلّ.. وهم ليسوا سواء..

وهكذا هي أيّامنا.. مرّة تحلو.. ومرّات نذوق المرارة في أردانها..

تمّ قبولنا في المدارس.. مع بعض الصعوبات، لكنّنا واجهناها كي نتعلّم..

- ما اسمك؟

- فاطمة.

- ما جنسيّتك؟

- هنديّة..

همسات الطالبات كالعادة حينما تسألني المعلّمات هذا السؤال.. ضحكات ساخرة -هنديّة.. ههههههه- ومحاولة مستميتة منّي لتجاهل هذا كلّه..

لم أجد لي صديقة في تلك المدرسة، هذه تشدّ شعري، وتلك تهزّ رأسها ساخرة مني.. وثالثة تشير إلى صور البقر وتقول بأنّها أفضل مني.. ورابعة.. وخامس....... كلّ يوم يمرّ علي أبكي فيه.. ولكنّي صبرت وتحمّلت.. إنغمست في تعلّم القرآن والعقيدة والفقه.. أصبح لي صديقات كثر من الداعيات والحافظات للقرآن..

أكملت الثانويّة.. تقي الدين ذهب إلى الهند ليكمل دراسته الجامعيّة.. ولكنّني آثرت البقاء هنا في دار التحفيظ وقد حفظت القرآن.. أرجو أن أكون قد ألبست أمي التاج.. إخوتي لا زالوا في صفوف الدراسة.. ولكنّهم أحبوا هذه البلد كثيراً.. وتكيّفوا معها.. بل أصبحوا يتحدّثون بلغتها.. ولهجة أهلها..

بين يدي الآن مولودي الأوّل.. تزوجت من رجل من بلدي.. مسلم.. يحفظ القرآن.. وبعد عدّة أشهر سنعود إلى الهند.. سأعود داعية إلى الله.. سأعلّم الناس كيف يهدون آباءهم تيجان الوقار بإذن الله..

الكاتب: هناء الحمراني.

المصدر: موقع رسالة المرأة.